تصرف فردي
مصعب محمد علي – خرطوم هايلايت
في مدينة رورو بالنيل الأزرق، يمتد السوق كجسد عجوز أنهكته الشمس.
تحت سقف من القش المتآكل، تتقاطع أصوات الباعة مثل نداءات في معركة قديمة
امرأة تنادي على الطماطم، ورجل يساوم على سعر البصل، وصبي يضحك وهو يطارد ديكا هاربا من القفص.
الروائح تتصارع أيضا رائحة البن والعرق والبهارات والدم، كأن السوق خليط مطحون في اناء واحد.
—
قبل الشروق، يبدأ كل شيء من جديد.
النساء يشعلن مواقد الفحم، ويمتزج الدخان بضوء الصباح.
في الركن القريب من المقهى الطيني، تجلس فاطمة بائعة الدكوة والطماطم، تبيع وتغني بصوت واهن
في الزقاق الضيق خلف المسجد، يخرج “ود النور” مترنحا من بيته الطيني، زجاجته في جيبه كرفيق دائم.
يقول وهو يعدل عمامته:
أنا ما سكران، أنا بس زعلان
ثم يضحك ويجلس قرب محل الجزار، يحكي للأطفال حكاية عن تمساح كان يحب الرغيف الساخن أكثر من اللحم.
يضحك الصغار، ويمنحه أحدهم كوب شاي بالحبهان يشربه بامتنان
ود النور رجل يعرف كل الأسرار، لكنه لا يتحدث عن أحد
يقولون إنه ذات مرة، أنقذ رجلا من السجن حين شهد بأنه كان معه يشرب في الليلة ذاتها، فقط لينقذ بريئا من تهمة لم يرتكبها.
—
في قلب السوق يقف “جرم — بعربته الخشبية، وعيناه كسنبلتين في شمس الظهيرة.
يبيع السكر،وحين يمر طفل يتيم، يسكب له بقبضة اليد في كيس صغير دون أن يأخذ ثمنها.
وحين يعجز أحد الزبائن عن الدفع، يقول:
ادفع لما تلقى
كان الناس يقولون إن جرم “غريب”، لأنه لا يعرف أن يكره.
ذات يوم، سرق صبي صغير كيس سكر من عربته، فلما قبضوا عليه، دافع عنه جرم وقال:
“ما سرق… انا الرسلته .”
ومن يومها صار الصبي يلازمه كظل صامت، يساعده في رفع الأكياس.
—
في المساء، يتحلق الناس حول ود النور، يستمعون لحكاياته التي لا تنتهي.
يروي عن تاجر مات وهو مبتسم
أو عن امرأة باعت ذهبها لتشتري دواء لجارتها.
يقول :كان السوق يضحك، حتى أولئك الذين لا يملكون سنا واحدة.
—
ثم جاءت الأيام التي تغير فيها كل شيء.
ارتفع سعر السكر ،
لكن جرم ظل يبيعه بالسعر القديم
يقول ببساطة:
“الناس جعانة… خليها تشرب شاي
ضحك ود النور وقال له وهو يرفع زجاجته:
“إنت يا جرم داير تصلح الدنيا بكيلو سكر؟ دي دنيا يا صاحبي، ما جامع !”
يضحك الجميع، وجرم أيضا، لكنه قال بجد :
“لو كل زول عدل شبر في قلبه، البلد بتتصلح.”
—
بعد يومين فقط، دخل السوق رجل من الأمن.
كان وجهه كالحجر، لا عين تتحرك ولا فم يعرف الابتسامة.
طلب من جرم ثلاثة كيلو من السكر.
أعطاه كيلو واحد فقط و قال له
“كفاية عليك، خلي الباقي للمواطنين.”
سكت السوق.
صفعه الرجل وقال باستهزاء:
“إنت راسك مافي يازول
اقتادوه إلى مكتب الأمن عند طرف السوق.
مرت ساعات ولم يعد.
قال صبي إنه سمع صوت الضرب ، وصوت رجل يقول “يا الله” كأنه يولد من جديد.
—
عندما خرج جرم، كان وجهه كرماد بارد
يمشي مترنحا كأنه يتكئ على جدار من الهواء.
عاد إلى بيته بصمت مكسور، وفي الصباح لم يستيقظ.
توقفت روحه في منتصف الطريق إلى الدمازين.
قالت أمه وهي تمسح رأسه:
“طلع من بيت الظلم ومشى لبيت الله.”
—
حين وصل الخبر إلى السوق، سقط كل صوت دفعة واحدة.
لم يبك أحد علنا، فقط نظرات تائهة وشفاه تتمتم بالدعاء.
جلس ود النور على جوال فارغ، وصار يغنى بصوت مبحوح
وبعد أيام، جاء ضابط إلى السوق وأعلن أن الحادث “تصرف فردي.”
ضحك ود النور ضحكة طويلة، ثم قال:
يا سيد، القهر في البلد دي ما فردي… دا نظام حياة.”
ثم أخذ زجاجته ومشى نحو الغروب،
يمشي بخطواتٍ متمايلة، كمن يحمل الحياة على كتفيه



