منوعات وثقافة

كوابيس الجنرال

مصعب محمد  علي

 

يستيقظ الجنرال  كل صباح على طعم الرماد في فمه. لا يعرف إن كان من أثر سيجارته أم من رماد المدن التي أمر بحرقها.

يمد يده المرتجفة إلى زجاجة العرق، يشرب رشفة صغيرة لكن الطعم ذاته يعود، كأنه يخرج من داخله لا من الزجاجة.

كان الليل بالنسبة له أطول من الحرب، كأنما  لم يعد يحارب أحدا سواه.

 

حين ينام، يبدأ الجحيم.

تفتح أمامه أبواب من دخان، ويسمع صراخا  يأتي من بعيد.

يرى نفسه يقف على جسر من جماجم، تحته نهر من دم، وعلى الضفة الأخرى امرأة  تبكي  بعد أن  احترق بيتها.

تحدق فيه بعينين لا ترمشان،

يحاول أن يتحدث معها ، لكن من  صوته يخرج رمادا.

ثم يظهر  رجل  في الحلم، بوجه مطلي بالطين، وساق حديدية  تطرق الأرض بإيقاع يشبه نقرات الموت.

يقترب من الجنرال ويساله:

هل كنت معنا حين  احرقنا  المدن؟

نعم كنت معنا وكنت  تضحك، ونحن نحرق الأطفال.

يصرخ الجنرال:

كذب!

لكن الأطفال يركضون حوله، وأصواتهم تتحول نارا في رأسه، تتوهج وتخبو، ثم تصعد في الهواء كأسماء لا تمحى.

يستيقظ مذعورا، يتلمس المرايا حوله فيجدها مكسورة.

في كل مرآة يرى  نصف وجهه   محروقا ، كأن الحلم لم يغادره.

يحاول إشعال سيجارة جديدة، فتشتعل الصور بدلا من التبغ

المدن المحروقة، النهر الذي شرب دماءه، الجنود الذين باعهم بأوامر مكتوبة وبخوف لا يرى.

في قصره، الذي تحرسه الكلاب أكثر من البشر، أصبحت الحياة تمر كصفحة من جحيم بارد.

حوله حاشية من الضباط والعرافين والمعرصين ، كل منهم يعرف سرا صغيرا عنه، فيبتزه

كل من حوله يعرف أنه مريض بالخوف، لكنه لا يجرؤ على القول.

العراف الذي كان يزوره كل خميس مات، لكن الجنرال ما زال يسمع صوته في الليل يقول له

الضل لسه وراك .

ذات ليلة، رأى نفسه يسير في شوارع المدينة بثياب ممزقة، يحمل زجاجة عرق، وينادي أسماء لا يعرفها.

الناس تضحك، والجنود يتوارون خلف الجدران.

يركض نحو النهر، يظن أنه سينجو بالماء، لكنه حين يمد يده يجد أن النهر من طين، يبتلعه شيئا فشيئا، بينما صوت المرأة  يأتي من تحت الطين

“الجنون أرحم من الذكرى.”

حين استيقظ، كانت الغرفة غارقة برائحة الحشيش والعرق والرماد.

العرش الذي جلس عليه سنين طويلة صار من دخان خفيف، يتلاشى تحت جسده كلما حاول أن يتكئ عليه.

في المرايا لم يبق له وجه، فقط ظل يمشي وحده في الممرات، يتمتم بأسماء لا يعرفها.

 

وفي الصباح، حين دخل الحرس الغرفة، لم يجدوا سوى زجاجة مقلوبة، ورائحة باهتة، وصوتا بعيدا يشبه البكاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى