ظلال تآكل الدولة في مسرح العبث..السودان من مليون ميل الى “دولة افتراضية”
ولاة يحكمون "أون لاين".. وحكومات على بعد مئات الأميال من "قواعدها"
خرطوم هايلايت
منذ اندلاع الحرب السودانية قبل ما يقارب ثلاثة أعوام، لم يعد الحكم يعني إدارة حياة الناس بقرارات واقعية، بل تحول إلى مسرحية عبثية، يتنافس أبطالها على إصدار بيانات من عواصم بعيدة عن الأرض التي يدعون تمثيلها.
في بورتسودان، معقل القوات المسلحة وحلفائها، شكلت حكومة أعلنت نفسها ممثلاً لكل السودان. ومن هناك، على شاطئ البحر الأحمر، جلس مني أركو مناوي ليعين حاكما لإقليم دارفور، وأسندت لمصطفى طمبور ولاية وسط دارفور، من دون أن يكون أي منهما قريبا من الإقليم الذي يفترض أنه يديره. وفي المقابل، أسس تحالف “تأسيس السودان” سلطته في نيالا غربا، ووزع المناصب بالطريقة نفسها، فأصبح فارس النور “حاكما للخرطوم” وهو في دارفور، يكتب بيانات على فيسبوك معلنا حالة الطوارئ الصحية في ولاية لم تطأها قدماه منذ اندلاع الحرب.
هذا المشهد، الذي يثير السخرية أكثر مما يبعث على الاطمئنان، ليس انقطاعا عن الماضي بقدر ما هو امتداد له. فمنذ استقلال السودان، ظل الحكم مركزيا، قائما على تعيينات فوقية لا تعكس إرادة الناس. في عهد جعفر النميري جعلت “الأقاليم” أداة لضبط البلاد لا لتحريرها، وفي عهد البشير تحولت “الولايات” إلى مجرد وظائف يمنحها المركز للمقربين أو للمساومة السياسية. لم يكن الحاكم يملك شرعية محلية بقدر ما كان يستمد وجوده من القصر الجمهوري في الخرطوم.
الجديد اليوم أن المركز نفسه تفتت، فصار الحاكم يعين من عاصمة بديلة أو من مدينة بعيدة، في عملية أشبه بإدارة البلاد عبر ريموت كنترول. وهنا تتبدى المفارقة ما كان في الماضي تحكما من الخرطوم في الأطراف، صار اليوم تحكما من الأطراف في الخرطوم.
السودانيون، كعادتهم في مواجهة المآسي، لجأوا إلى السخرية. أحدهم كتب:
(حاكم الخرطوم يحكم من نيالا وحاكم دارفور يحكم من بورتسودان… إنها بلد العجائب)
آخر سخر قائلا: (دي طريقة حكم افتراضي جديدة)
فيما شبه البعض التجربة بـ(الحكم على خرائط غوغل). لكنها سخرية مرة، تخفي قلقا عميقا إلى أين يسير هذا الوطن؟.
الذاكرة الوطنية محملة بالتحذيرات. فقد قاد التنازع على السلطة وغياب المشروع الوطني إلى انفصال الجنوب عام 2011، حين تقزم السودان من مليون ميل مربع إلى سبعمئة وسبعة وعشرين ألفا. واليوم يعاد السيناريو بأدوات مختلفة حكومات موازية، ولايات تدار من منفى داخلي، وشهوة سلطة لا تشبع.
يشبه هذا الوضع، إلى حد بعيد، التجربة الليبية، حيث توازت الحكومات وتصارعت الشرعيات حتى تاكلت الدولة. لكنه أيضا إعادة إنتاج لأمراضنا القديمة: المركزية المريضة، غياب الإرادة السياسية للتسوية، واستسهال الحكم بالقرارات المعلقة فوق حياة الناس.
النتيجة أن السودان يقف على عتبة مصير أكثر قتامة وطن ممزق تدار أقاليمه عبر بيانات على فيسبوك، فيما الخراب يتكثف على الأرض، والناس عالقون بين سلطتين عاجزتين عن أن تكونا أكثر من مجرد ظلال في مسرحية طويلة.



