تقارير

إستبدال لغة الدولة بلهجة المبايعة.. كامل ادريس “سقوط المنصب في فخ الهتاف”

جعل من الدولة كاريكاتوراً يتجول في مسرح الأنا

خرطوم هايلايت- مصعب محمد علي

لم يكن الهتاف الذي اطلقه كامل ادريس في اسمرا مجرد لحظة انفعال عابر بل كان سقوطا مدويا لمنصب من المفترض ان يكون عنوانا للاتزان والهيبة.

ان يقف رئيس وزراء السودان الدولة التي صاغت مفردات الدبلوماسية في القارة ليهتف (عاش افورقي عاش البرهان) امام منصة احتفالية فذلك ليس امتنانا ولا مجاملة بل اعلان صريح عن افلاس الوعي السياسي وانحدار الخطاب الرسمي الى لغة الشعارات الرخيصة.

لقد حول ادريس مقام رئاسة الوزراء الى فرجة مبتذلة نزع عنها وقارها  والبسها ثوب المهرج الباحث عن التصفيق.

الرجل الذي طالما تباهى بانه قانوني أممي ومدير سابق للملكية الفكرية بدى في اسمرا كمن استبدل لغة الدولة بلهجة المبايعة ونسى ان هيبة المنصب لا تستعار من الخارج ولا تستجدى بالهتاف.

كان ذلك المشهد تجسيدا للفارق بين رجل دولة يعرف مقام الكلمة ورجل سلطة يظن ان الهتاف بالصوت العالي يعوض غياب المعنى.

وما فعله كامل ادريس ليس الا مسرحة للفراغ اذ استبدل الخطاب بالحركة والفكر بالتصفيق والعقل بالادعاء.

لم يكتف باذلال المنصب بل جعل من المشهد الرسمي مادة للسخرية  حتى صار الناس يتداولونه كطرفة لا كحدث يليق بدولة كانت تعرف برصانتها ووقارها.

لكن الفضيحة في اسمرا ليست بداية الحكاية بل ذروتها.

فمنذ اليوم الاول لتوليه المنصب بدى ادريس كمن يعيش خارج الجغرافيا السياسية للسودان، يتحدث عن النهضة ببدلة انيقة بينما الخرطوم تشتعل تحت الرماد، و يتباهى بحكومة الكفاءات وقد احاط نفسه بشخصيات مجهولة لا يعرف احد سيرتها ولا قدرها.

يطل في مقابلات تلفزيونية يتحدث عن اعادة كتابة التاريخ بلهجة نرجسية تستدعي التصفيق لا التفكير، ويعلن ان السودان يعيش افضل فتراته السياسية فيما البلاد تتداعى وتتمزق.

انها ليست زلات بل مظاهر اضطراب عميق في فهم المنصب نفسه.

فكامل ادريس يتعامل مع رئاسة الوزراء كمرآة تعكس ذاته لا كمنصة تخاطب أمة.

نسي ان المنصب تكليف لا استعراض وان وقار الدولة يصان بالعمل  لا بالهتاف الصاخب.

اختار ان يكون نجم العرض لا راعي المصلحة العامة وان يجعل من الدولة كاريكاتوراً يتجول في مسرح الأنا.

لم يحدث في تاريخ السودان ان انحدر المقام الدستوري الى هذا الحد من الهزل، فما فعله ادريس لم يهن شخصه فحسب بل اهان فكرة الدولة ذاتها وحول ارفع موقع في السلطة التنفيذية الى موضوع للتندر بين الناس.

لقد سقطت هيبة المنصب في نبرة صوته وتلاشت فكرة المسؤولية في لسانه الذي يوزع المديح كما يوزع المهرجون الضحك في السيرك.

إن التاريخ لا يرحم من يفرط في المعنى من اجل اللقطة ولا من يهتف حيث يجب ان يصمت.

وفي لحظة اسمرا بدى كامل ادريس كمن فقد البوصلة تماماً، لا هو رجل دولة ولا هو خطيب قضية، بل ظل رجل يلهث وراء اعتراف شخصي في محفل غريب، يظن أن الصدى يمكن أن يصنع المجد.

وهكذا لم يسقط ادريس وحده بل سقط معه مقام المنصب وتراجعت هيبة الدولة الى ادنى درجات الهزل

في زمن يحتاج السودان فيه الى العقلاء قدم رئيس وزرائه مشهدا يليق بالكوميديا السوداء لا بالتاريخ الوطني.

لقد حول المهابة الى مهزلة والكلمة الى هتاف والدولة الى صدى لصوته العالي، وهذا في ميزان الوعي أعظم خيانة يمكن أن يرتكبها رجل في حق المنصب الذي يحمله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى